وَقَدْ أغْتَدِي والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا
بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأَوَابِدِ هَيْكَلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً
كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
هذا ما قاله امرؤ القيس في وصف فرسه. وهو من أفضل شعراء العرب الذين عاشوا قبل الإسلام. ويعتقد أنه مات قبل الإسلام بمئة عام، وهناك من يعتقد أنه عاش ما بين 520م و565م. وهو من أصحاب المعلقات وبلغ عدد أبيات معلقته 86 بيتًا. بدأها بالوقوف باكيًا على أطلال الأحبة الذين رحلوا عن تلك الديار ولا تزال آثارهم باقية على الرغم من الرياح العاتية التي تمر عليها. وما زال حب الراحلين عالقًا في قلبه. ثم ذكر يوم دارة جلجل وهو يوم قابل فيه بعض العذارى وظل يتحدث معهن وعقر لهن مطيته وأكلن منها. ثم ركب مع صاحبته التي أحبها وظل يذكر لها مغامراته مع غيرها بشكل شعري، ثم بدأ بمناجاة حبيبته فاطمة التي هجرته وما يعانيه من عذاب بسبب هجرانها. ثم ذكر في أكثر من 20 بيتًا من معلقته قصة من قصص مغامراته مع إحدى محبوباته ووصف محاسنها، ثم وصف ظلام الليل وطوله وأهواله وما يعانيه من ملل في انتظار الصباح، ثم وصف معاناته وهو يقطع مغارة يسمع فيها عواء الذئاب، ثم ينتقل ليصف فرسه وخصص آخر أبيات في معلقته لوصف البرق والمطر الذي ينحدر من سفاح الجبال ويملأ الوديان. ويجلس مع أصحابه يستمتعون بمناظر الطبيعة وهم يرون الوحوش قد غرقت في المطر والطيور تغرد فرحة لتوقف المطر وصفاء الجو.
خصص في تلك المعلقة 18 بيتًا لوصف حصانه القوي السريع وهو يمتطيه في الصباح الباكر قبل أن تصحو الطيور من نومها ذاهبًا لرحلات الصيد مستمتعًا بركوب ذلك الحصان الذي يسير بسرعة خاطفة لدرجة أن الوحوش البرية السريعة يراها كأنها مقيدة لا تسير. ويشبه سرعته بالصخرة الضخمة المنحدرة من أعلى الجبال. واستمر بوصف حصانه وهو يطارد أسراب البقر الوحشية التي لا تستطيع الفرار من ذلك الحصان السريع. وقد أعجب النقاد والرواة بتلك الأوصاف والصور الشعرية الراقية وعدّوها من عيون الأدب العربي.
يتبين لنا مما تقدم أن امرؤ القيس مات شابا لم يتجاوز الأربعين من عمره، ومع ذلك ترك أدبًا وفكرًا راقيين أعجب به الكثير من النقاد العرب وغيرهم، ما يدل على المستوى الثقافي والفكري الراقي للحضارة العربية في تلك الفترة. كما يقال إن أبا الشاعر قد طرده بسبب مجونه ومعاقرته للخمر، وقد يدل ذلك على أن العرب لا ترضيهم تلك الأخلاق.. مع أنه مات قبل البعثة والقرآن يقول «مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولا» (الإسراء – 15).