سمعت صوتاً هاتفاً في السحر
نادى من الغيب غفاة البشر
هذه الأبيات مطلع رائعة الخيام التي غنتها أم كلثوم في منتصف القرن العشرين. وهي مترجمة عن شعر الشاعر عمر الخيام 436 - 515 أو 525 هـ 1048 - 1123 أو 1132م. تخصص الشاعر في الرياضيات وعلم الفلك، وله مؤلفات مبدعة في هذا المجال، تُرجم بعضها إلى الفرنسية قبل ترجمة الرباعيات بقرن، ودُرست في الجامعات الأوروبية، ولكنها لم تشتهر كشهرة الرباعية.. ودعاه الحاكم السلجوقي سلطان ملك شاه لرئاسة مشروعه الفلكي. وبالرغم من نبوغه في الرياضيات والفلك، فإنه كانت له ميول أدبية. وبسبب الفهم الخاطئ لفلسفته، تشكك بعض العامة في دينه واتهموه بالزندقة وأُحرقت كتبه. ظلت الرباعيات مجهولة حتى ترجمها الشاعر الإنكليزي إدوارد فيتز غرالد في 1859 بلغة كلاسيكية راقية. أعجب الأوروبيون بفكر الخيام وفلسفته. لذا، تمت ترجمتها لمعظم اللغات الأوروبية والشرقية.
وقد يرجع سبب إعجاب الأوروبيين بفلسفة الخيام إلى اعتقادهم بأنه قد سبق عصره. فما نادى به من أفكار في القرن الحادي عشر كان قريباً من الفلسفة الأوروبية التي برزت في عصر النهضة واستكملت في عصر التنوير. والتي كانت تنادي بالحرية والاستمتاع في الحياة. ففهمه لمعنى الحياة شبيه بفكر الإنسان الأوروبي المعاصر والمثقف. الرباعية فكر حزين، حزين على تغلب الزمن ومصير الإنسان الذاهب إلى زوال. فأراد الخيام أن يواجه بفلسفته الوجودية فجيعة الرحيل بالاستمتاع في الحياة والإقبال عليها. وعبر عن ذلك بأسلوب شعري متميز. وقد يكون متأثراً بالمعري الذي صاغ فكره الفلسفي بالشعر. ولكن الفرق بينهما أن فلسفة المعري تدعو إلى الزهد، بينما كان الخيام يدعو إلى الانغماس في الملذات.
يقول:
لا تشغل البال بماضي الزمان
ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته
فليس في طبع الليالي الأمان
غداً بظهر الغيب واليوم لي
وكم يخيب الظن في المقبل
ولست بالغافل حتى أرى
جمال دنياي ولا أجتلي
أولى بهذا القلب أن يعشقا
وفي ضرام العشق أن يحرقا
ما أضيع اليوم الذي مر بي
من غير أن أهوى وأن أعشقا
أفق خفيف الظل هذا السجر
نادى دع النوم وناغ الوتر
فما أطال النوم عمراً
ولا قصر بالأعمار طول السهر
وقد تناول طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي مشاعر فجيعة الموت والزوال بنفس الفلسفة، تأمل قوله:
ألا أيها الزاجري ان احضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي؟
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أباشرها بما ملكت يدي..
غير أن الخيام تناول فجيعة الزوال بإبداع فني مميز ضمنه فلسفته الوجودية من أول بيت في القصيدة إلى آخرها، من دون أن ينصرف إلى أغراض أخرى. ويختم القصيدة بمناجاة الخالق وطلب المغفرة.
د. عبدالمحسن حمادة
D_hamadah@hotmail.com