نأمل أن تنعم مصر بالهدوء والاستقرار، وأن يهتم الرئيس الجديد بالملفات التي تحتاج إليها الدولة، ومن أهمها الأمن والاقتصاد. أول ما تحتاج إليه مصر بعد هذه العاصفة المبادرة إلى مصالحة وطنية شاملة، لا يستطيع شعب أن ينهض وهو منقسم على نفسه. فالشعب المصري الذي عرف تاريخياً بالتجانس والانصهار، يظهر اليوم بصورة وكأنه يعادي بعضه بعضاً. حتى صار كثير من أبناء مصر يصرخ قائلاً «مصر حتضيع مننا»، شاهدنا أنصار الرئيس د. مرسي في ميدان التحرير يهتفون فرحاً بفوزه ويعلنون استمرار الثورة حتى تتحقق مطالبهم. كما شاهدنا أنصار الفريق شفيق في ميدان العباسية وهم يصرخون غضباً لخسارة مرشحهم، ويتهمون اللجنة بتزوير النتائج، خوفاً من التهديدات التي أطلقها الإخوان. ولكن كلمة الفريق شفيق الرائعة هدّأت الأوضاع وكرّست قيم الديموقراطية. وتقتضي المصالحة تحقيق المساواة بين أبناء الشعب الواحد، فلا يحق لجماعة أن تلغي جماعة أخرى من المواطنين وتحرمهم من ممارسة حقوقهم السياسية لمجرد أنهم من رجال النظام السابق. فمن يقبل بالخيار الديموقراطي لا يهدد بحرق الدولة إذا لم يفز مرشحه، ولا يحق له إقصاء الآخرين عن الترشح لمجلس الشعب أو رئاسة الجمهورية لأسباب شخصية، لأن الديموقراطية تقوم على حكم القانون، وإحالة الجرائم إلى القضاء، والنأي عن الآراء الشخصية.
من أهم المصالحات التاريخية ما فعله الرسول، صلى الله عليه وسلم، عند فتح مكة. دخلها متواضعاً لم يفكر بالانتقام. ويقول لإصحابه «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام»، فمن كان في الجاهلية ذا كفاءة ومواهب يجب الاستفادة منه في الإسلام، لذلك أصبح خالد بن الوليد قائد جيش المشركين في أحد، سيف الله المسلول، وقائد جيوش الإسلام، ومعاوية بن أبي سفيان أصبح من كتاب الوحي، ووالي المسلمين على الشام. تأثر مانديلا بهذه السيرة، فأجرى مصالحة مع البيض، وحذّر جماعته من التفكير بالانتقام. ونصح المصريين بأن يقتدوا بنبيهم، وحذّرهم من الانجراف وراء شهوة التشفي والانتقام. فمن يفكر بالانتقام سيعجز عن البناء ويحرق الدولة.
كثير من قطاعات الدولة، خصوصاً الاقتصادية، قد توقفت بسبب التجاذب والتخاصم بين أبناء الشعب.
في هذا السياق، نرجو أن ينظر الرئيس بكل اعتبار إلى قضية الرئيس السابق حسني مبارك، فهو رجل مريض ومسن. حارب في 56 و67، وأصبح قائداً للقوات الجوية بعد هزيمة 67، فأعاد إليها الحياة، وشارك في حرب الاستنزاف، وكان أحد قادة حرب أكتوبر، تأسست في عهده مدن وبنيت جسور وطرق وجامعات، حافظ على دماء المصريين وثرواتهم حين جنب الدولة شرور الحروب، نرجو من الرئيس الجديد أن يتشاور مع القضاة والمحامين ومن يهمه هذا الأمر، ليفكر بصيغة يتمكن بها من العفو عنه، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، فقد كان كثير العفو والتسامح. يروى أن النبي لما أذن له بفتح مكة فاتح بعض أصحابه بالأمر، وكان من بينهم حاطب بن أبي بلتعة، فذهب حاطب إلى امرأة من قريش كانت موجودة في المدينة، فأعطاها 10 دنانير وخطاباً تسلمه إلى قريش قال فيه: «من حاطب إلى أهل مكة، إن محمداً قادم إليكم فخذوا حذركم»، ولما أبلغ جبريل النبي بالأمر طلب من علي ومعه نفر أن يدركوا المرأة ويأتوا منها بالخطاب. وطلب عمر من النبي أن يضرب عنقه، فأجابه «لقد شهد معنا بدراً، وأن الله غفر لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر». فقد كانت بدر نقطة مهمة في حياة المسلمين، كذلك يجب أن تكون حرب أكتوبر نقطة مهمة في حياة المصريين.
لا ينكر أحد أنه ارتكب كثيراً من الأخطاء، ولكن من الممكن النظر إليها على أنها نوع من الاجتهاد الخاطئ. فبعض الرؤساء يخطئون، لننظر إلى بوش كيف أدخل بلاده في حرب غير أخلاقية تسببت في قتل الآلاف وأرهقت الاقتصاد الأميركي، وكذلك بلير عرف الشعب البريطاني أنه كذب عليه في الحرب على العراق. أما بالنسبة لاتهام مبارك بقتل المتظاهرين، فلم يثبت ذلك بالأدلة، حتى القاضي الذي حكم بالمؤبد قال إنه لا توجد عنده أدلة. فلا القاضي ولا النيابة مسؤولان عن الإتيان بالأدلة، بل المسؤول من يدعي ذلك. وأثبت محامو الرئيس السابق براءة موكلهم من ارتكاب تلك الجرائم. وعندما نطالب بالمصالحة والتسامح لا يعني نسيان دماء الشهداء والجرحى، بل يجب أن تتكفل الدولة بكل حقوقهم. وكذلك بالنسبة للجرائم المالية يجب أن تهتم الدولة باستعادة الأموال المنهوبة.
نتمنى نسيان الماضي، وأن نأخذ منه الدروس والعبر، والاهتمام بالمستقبل وبناء الدولة على أسس من الديموقراطية التي نادت بها الثورة، والاهتمام بالأمن والاقتصاد الذي أوشك على الانهيار.