في القرن الخامس ق.م. ألف أفلاطون كتاب «الجمهورية»، ورأى فيه أن الدولة لن تتقدم حتى تحكم من الفلاسفة المستنيرين بالعلم والمعرفة والمتعلمين تعليما عاليا يُمكّنهم من فهم طبيعة الانسان وفهم الخير والشر ونشر العدالة. واقترح نظاما تعليميا يلتحق به الانسان منذ الميلاد حتى سن الــ60. قسّمه الى مراحل، في كل مرحلة يقترح مناهج محددة لتدريب قدرات تبرز لدى الانسان في تلك المرحلة. وتتخلله اختبارات صعبة، ومن يجتز تلك الاختبارات بنجاح فهو من يدخل في نطاق القيادة التي تحكم الدولة. وبعد أن تقدم في السن وأنضجته تجارب الحياة ألف كتابه «القوانين»، فتراجع عن رأيه المطالب بدولة الفيلسوف ونادى بمبدأ سيادة القانون، ورأى أن القانون وحده الذي يجب أن يخضع له الحاكم والمحكوم.
أخذت أثينا الديموقراطية بهذا المبدأ والجمهورية الرومانية في أوج قوتها، فالنظام الديموقراطي من شأنه أن يساعد على التمسك بمبدأ سيادة القانون. لأن الخضوع للقانون خضوع لحكم العقل والضمير بعيدا عن الأهواء ويعمل للمصلحة العامة بعيدا عن مصلحة طائفة أو فئة معينة، فهو يتماشى مع كرامة جميع المواطنين وعزتهم.
قال هذا الكلام الرائع فلاسفة عظام قبل 25 قرناً، أي في المراحل الأولى من تطور الحضارة البشرية وتأسيس المجتمعات. وطبقته مجتمعات، وكان من أهم عوامل تطورها. اليوم في القرن الــ21 تخرج علينا أصوات منكرة تتعصب للقبيلة أو الطائفة تريد الاحتكام لقانون القبيلة والامتثال لأوامر مشايخها وأمرائها، وتتجاهل قانون الدولة وتلغي وجودها. وهناك شواهد تدل على ذلك حدثت تحت سمع الدولة وبصرها ولم تحرك ساكنا لايقاف هذا العبث. منها حرق مقر (المرشح) جويهل من قبل مجموعة مسلحة كانت مستعدة لقتال من يتصدى لها، والاعتداء على قناة الوطن والبحث عن أحد ضيوف برامجها لقتله واقتحام قناة سكوب وتحطيم معداتها احتجاجا على برنامج بثته القناة ادعوا أنه أساء لقبيلتهم. وعقدوا تجمعا حاشدا ألقيت فيه كلمات خطرة تعالت فيها أصوات النعرات القبلية البغيضة التي حاربها ديننا وقال عنها «دعوها فانها منتنة» وتجاوزتها المجتمعات البشرية بصفة عامة. لخطرها على وحدة الدولة وهيبتها. قال هذا الكلام محامون ونواب أقسموا على الحفاظ على الدستور ووحدة الوطن، ولكن بكل أسف يعملون عكس ذلك. انهم يبحثون عن أي مشروع يؤدي الى الفتنة والاضطراب ليزيدوه اشتعالا.
بعد الاستماع الى المقابلة، التي أثارت الزوبعة، لم أجد في كلام النائب القلاف أي مساس أو اساءة للقبيلة. لقد قال رأيا سياسيا يحتمل الخطأ والصواب. ومن الممكن الرد عليه أو تجاهله. ولكن أبت هذه الجماعة الا أن تستغل تلك المناسبة لاثبات قوتها وتفرض هيبتها على الدولة. وبالفعل وجدت دولة ضعيفة رخوة تخاف من ظلها أشبه «بخيال مآتة». لم تتحرك لوقف ذلك العبث بأمن الدولة وكرامة المواطن. لقد كان استجواب السيد القلاف، الذي وصفوه بأنه ضعيف وركيك، استجوابا راقيا. فليس المقصود بالاستجواب ارهاب المسؤولين وتخويفهم بالشارع لاثبات القوة. بل الأهم من ذلك توصيل رسالة للدولة ولفت نظرها لاخطار عاجزة عن ادراكها. فقد قيلت في ذلك التجمع كلمات خطرة تعلي من شأن القبيلة وتحط من مكانة الدولة وتعبث بأمنها. كما قالوا كلاما يمس كرامة النائب القلاف كمواطن وكرامة كثير من المواطنين والدولة هي المسؤولة عن ذلك. كنا نتمنى لو ركز الاستجواب على ذلك. وللعلم فان المجتمعات المجاورة وسائر المجتمعات البشرية تتكون من قبائل انصهرت في كنف الدولة الموحدة. فالقبيلة دولة لمن ليس له دولة.
د. عبدالمحسن حمادة
D_hamadah@hotmail.com