يستدل من تاريخ العراق أن القسم الجنوبي منه، من بغداد الى الخليج العربي، ظل مغمورا في المياه حتى الألف الخامس ق.م، وبعد توقف العصر المطير جفت المياه في تلك المنطقة، وبدأ الإنسان يستوطنها، فنشأ نتيجة لتلك الهجرة مجموعة من الدويلات، وكان يرأس كل دويلة زعيم قبيلة. ونشأ صراع بين شيوخ تلك القبائل، فاستغلت جارتهم مملكة عيلام (إيران) ذلك الوضع للسيطرة على تلك الدويلات. فأدركت تلك القبائل أهمية الاندماج فيما بينها لتشكيل دولة قوية موحدة، للدفاع عن أرضهم وليتمكنوا من استغلال ثروات الدولة بصورة أفضل، ولتحقيق هذه الرغبة نشأت دولة سومر في جنوب العراق. وتم ذلك في منتصف الألف الثالث ق.م، كما ظهر مفهوم الدولة في مصر والشام والهند والصين واليونان وروما. وهكذا استطاع الإنسان منذ العصور القديمة التخلي عن القبيلة لمصلحة الدولة. فاستطاع ان يخرج من بدائيته ويطور ثقافته ونظمه، الأمر الذي يستحيل ان يحدث لو ظل الإنسان متقوقعا في الولاء للقبيلة. كما حدث لعرب الجزيرة الذين لم يتخلوا عن مجتمعهم القبلي، لذلك لم يطوروا ثقافتهم حتى جاء الإسلام، فدمج تلك القبائل في ظل دولة موحدة، فتمكنوا من بناء دولة قوية وتشييد حضارة متميزة خلال سنوات محدودة. لذلك بذل المسلمون في صدر الإسلام جهدا كبيرا للحفاظ على المجتمع القوي الموحد. ونظرا إلى أهمية وحدة الدولة حرصت جميع المجتمعات على أن تجعل الحفاظ على وحدة الدولة الهدف الأعلى الذي تسعى لتحقيقه. ولقد عانت دول كثيرة من شرور التعصب القبلي المذهبي، ومن ضمنها أوروبا التي عرفت خلال العصور الوسطى ألوانا من التعصب القبلي أدى إلى ظهور حروب أهلية، كادت تقضي على الكيان الأوروبي. اليوم نواجه خطابا فئويا مشبوها يعبث بكيان الدولة ووحدتها الوطنية، ليلغي وجودها ونظمها، ويرتمي في أحضان القبيلة او الطائفة، وهو ما هجرته البشرية منذ قرون ليعيدنا الى العصور البدائية. عندما كانت المجتمعات البشرية مقسمة إلى قبائل وطوائف متعادية ومتناحرة ترفض الاحتكام الى قانون ينظم حياتها، وليس لديها مشروع وطني، ولا روابط اجتماعية. قد يستغل من يريد اشعال الفتنة بعض أخطاء الحكومة، كأخطاء وزارة الداخلية التي اعترفت بأنها أخطاء جسيمة وتريد معالجتها بالطرق المشروعة، كإجراء التحقيقات وإيقاف كبار المسؤولين عن العمل وتحويل القضية الى السلطات القضائية. وهي إجراءات سليمة تقوم بها كل دولة ديموقراطية تحترم نفسها. ولكن من يريد الفتنة لا يرغب في الإصلاح، بل يلجأ الى التصعيد والتهييج والتحريض لتحقيق مآربه. ولعل ما صدر ويصدر من بيانات من القبائل والطوائف مؤيدة او معارضة لأي طرف من الأطراف دليل على أن هناك من يريد تكريس الانقسامات في مجتمعنا المدني وتعميقها. نتمنى ان نكون قادرين، حكومة وشعبا، على مواجهة هذه الظاهرة الخطرة. وعلينا ان نتعظ بما يحدث في محيطنا، ونحن نشاهد تكتلات مذهبية اتخذت من الدين ستارا لتغطية أهدافها المريبة، ثم تسلحت لتفرض إرادتها بقوة السلاح.
1/29/2011
|