الإصلاح السياسي شرط لتحقيق الإصلاح الشامل | رجوع

'انا الدولة والدولة انا'ِِ يقال ان لويس السادس عشر، آخر ملوك فرنسا، هو من قال هذه العبارة، وكان يرددها باستمرارِ كما يقال ان سلفه وجده لويس الخامس عشر كان يقول 'انا وحدي من يتمتع بالسلطة التامة، وغير المحدودة فيما يتعلق بالتشريع'، وكذلك قوله 'ليكن من بعدي الطوفان'ِ فهذه العبارات تعكس بجلاء مبدأ السلطة المطلقة التي كانت تتمتع بها الاسر الحاكمة في ذلك الحين، كانوا يريدون الحفاظ على تلك الامتيازات وحرمان الشعب من ممارسة حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصاديةِ وكان الملك يستمد قوته من مبدأ موروث ومقبول من العصور الوسطى مفاده: ان الملوك يستمدون قوتهم من المشيئة الالهيةِ ومع التقدم العلمي وضعف تأثير نظرية الحق الالهي، بدأت تظهر نظريات في السياسة والاجتماع تبرر استمرار نظام الملكية المطلقة والمستبدة، وتصورها على اساس انها نظام ازلي وضروري لضمان استمرار السلم والاستقرار الداخلي والامن الخارجيِ ولقد عارضت حاشية الملك سواء من ابناء الاسرة الحاكمة او اصحاب الامتيازات والنفوذ، عارضوا فكرة الاصلاحات الضرورية السياسية والاقتصادية والاجتماعية حفاظا على نفوذهم وامتيازاتهمِ متجاهلين التطورات الثقافية والاقتصادية والاقليمية التي اضعفت قبول نظام الملكية المطلقة فأصبحت لا تناسب افكار العصر ومتطلباتهِ فأدى رفضهم مبدأ الاصلاح الى انتشار الفوضى والاستهتار والتسيب مما تسبب في حدوث انهيارات اقتصادية واجتماعية سارعت في القضاء على الملكية التي زعموا انهم كانوا يخدمونها. 

والغريب ان نظام الحكم الاستبدادي المطلق الذي نبذته اوروبا والعالم الحر منذ قرون، ما زال سائدا في الدول العربية، حيث تحكم شعوب المنطقة سواء كانت جمهورية او وراثية في ظل حكم مطلقِ يرفض فيه الحاكم تقبل القوانين التي تحد من نفوذه وتقيد سلطاتهِ وهذا التخلف السياسي هو اساس البلاء والضعف السائد في المنطقةِ فتخلفنا الثقافي والاقتصادي والعسكري اساسه التخلف السياسيِ فعجزنا عن مد يد العون والمساعدة للشعبين العراقي والفلسطيني اللذين يتعرضان لمجازر ومذابح بشعة على ايدي الصهاينة المتطرفين في واشنطن ولندن وتل ابيب، مرده التخلف السياسيِ فالمنظومة العربية الحاكمة تعتقد انها تستمد قوتها وبقاءها من رضا اميركا عنها لا من ارادة الشعوبِ لذلك لا يبالون بمعاداة شعوبهم وتجاهل مطالبهم وآمالهم، ويسعون الى تنفيذ اوامر اميركا بالرغم من وضوح المشروع الاميركي الخطير على المنطقة والرامي الى احتلال المنطقة وتحطيم اعز ما تملك من دين وثقافة واقتصاد. 

ان الاصلاح السياسي هو مفتاح عملية الاصلاح واساسها، ومن المستحيل تحقيق اي نوع من انواع الاصلاح دون البداية بالاصلاح السياسيِ ويقتضي الاصلاح السياسي ان تتوافر في الدولة حرية تأسيس الاحزاب الوطنية، التي تعمل على تربية الشخصيات الوطنيةِ وان تتنافس تلك الاحزاب في اجواء انتخابات حرة ونزيهة، تضع برامجها الوطنية المحددة والواضحة، وان يختار الشعب من تلك الاحزاب من يقتنع بأفكاره وطروحاتهِ وتتشكل السلطة التنفيذية من الحزب الفائز او يتآلف مع احزاب اخرى اذا اقتضت المصلحة والضرورة ذلكِ فهذه الحكومة التي تنبثق من ارادة ومشيئة شعبية، ستضع في اولوياتها خدمة الانسان والدولةِ وتلتزم بسيادة القانون وتطبيقاته، سواء القوانين الدستورية او الاداريةِ تلتزم بسيادة القانون وتطبقه على نفسها اولا ثم تلزم المواطنين جميعا بتطبيقه حتى يسود النظام وتتحقق العدالة وتنتهي الفوضى والاستهتارِ وستكون قدوة صالحة لكل ما تنادي به من مبادئ وقيمِ تحاسب الوزراء وكبار المسؤولين اذا ارتكبوا جرائم دون ان تتستر عليهم او تجاملهم، بل تسارع في ردعهم وعقوبتهم دون مماطلة او تسويف ليكونوا عبرة لغيرهمِ وستهتم بالتعليم وتضعه في اول سلم اولوياتها، على اساس انه يصنع الاجيال القادمة، التي يجب ان تربى على الايمان بالله والولاء للوطن والخضوع للقوانين ونبذ الطائفية والقبليةِ ويتعلموا مبادئ وقيم الديموقراطية الحقيقية وكيفية ممارستها الممارسة الحقيقيةِ ويتفهموا مشكلات الدولة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ـ وكيف يسهمون في معالجتها بالاساليب والمهارات العلمية والاخلاق الفاضلة ـ ينتموا الى امة عربية مسلمة مدركين للعدو المتربص بهذه الامة ونواياه واساليبه الشريرة. 

وفي ظل هذه الظروف السياسية الصحية سيشكل المجلس التشريعي من شخصيات وطنية، واسعة الافق مدركة لأهمية المجلس ورسالته الساميةِ وملمة بمشاكل الدولة الاقتصادية والسياسية والثقافية والادارية الملحةِ وتضع في سلم اولوياتها مواجهة تلك المشكلات ومعالجتها. 

بعيدة عن المصالح الشخصية والقبلية والطائفيةِ لا تضيع وقت المجلس في الامور التافهة ولا تدخل مع الحكومة في أزمات مفتعلة، بل سيتعاون النواب والحكومة الجادة والمخلصة على دعم الاستقرار والتقدمِ وستساعد هذه الظروف الصحية على ايجاد سلطة قضائية مستقلة لها ميزانيتها الخاصة وقوانينها الادارية التي يتم بموجبها تعيين القضاة وترقيتهم ومحاسبة من يخطئ منهم وكيفية تنفيذ احكام القضاء، والاشراف على الجهاز الاداري الذي يخدم جهاز القضاء وييسر اداء مهمتهِ كما ستسهم هذه الظروف في ايجاد سلطة اعلامية مستقلة تمكن الاحزاب والمواطنين من اصدار الصحف ووسائل الاعلام الاخرى ليعبروا فيها عن وجهات نظرهم. 

اما في ظل التخلف السياسي، ومن ابرز مظاهره احتكار السلطة وعدم تداولها وحرمان الشعب من المشاركة الحقيقية في القرار السياسيِ فسيتم تعيين رئيس الوزراء بصورة غير ديموقراطية، وقد يفرض لسنوات طويلةِ وقد يعتقد انه فوق البشر ولا يستطيع احد ان يسائله، وسيرفض الخضوع للقوانين التي تحد من سلطاتهِ وقد يكون محدود الذكاء والثقافة وقليل الاطلاعِ وسيختار الوزراء وفق معايير خاصة من اهمها القرابة اولا ثم من يضمن ولاءهمِ وقد ينظر الى الوزراء نظرة فوقيةِ قد يشعرهم بانهم من كبار الموظفين، ولكنهم لا يتساوون معه في الندية، وقد توجد حكومة خفية هي التي تصنع القرارات، لا سيما السياسية والمصيرية، ثم تملى على الوزراء ليوافقوا عليها دون مناقشة جادة او دخول في التفاصيل، اي قد يتحول مجلس الوزراء الى مجلس صوري، وفي هذه الظروف ستكون المهمة الاولى للسلطة التنفيذية او الجهاز الحكومي المسيطر عليه من قبل رئيس الوزراء وحكومته الخفية، السيطرة على الدولة والافراد ومسك زمام الامورِ وذلك من خلال تعيين كبار الموظفين الرسميين الذين يختارون بدقة لاداء هذه المهمة الخطيرةِ وهكذا تتم السيطرة على الجيش والامن والسياسة الخارجية والاعلام والتعليم والدولة برمتها وتوجيهها لخدمة مصالح افراد اكثر من الاهتمام بالشأن العام او العناية بالتطوير والاصلاحِ وسيؤدي هذا حتما الى ضعف الجهاز الحكومي، وترديه وتنتشر فيه الفوضى والرشوة والمحسوبية والترهل، ويصبح عاجزا عن تحقيق قضايا الاصلاح التي تنادي بها الحكومة، لان الحكومة غير جادة في تحقيق الاصلاح. 

وستحاول هذه السلطة مد نفوذها وسيطرتها على السلطات الاخرىِ فهي لا تؤمن بمبدأ الفصل بين السلطات، إذ لديها وسائلها المتعددة للسيطرة على السلطة القضائية ومنعها من اصدار احكام تتعارض مع مصالحهاِ كما ستمد نفوذها الى السلطة التشريعية عن طريق تأثيرها وتدخلها المباشر وغير المباشر في الانتخابات، ومنعها قيام احزاب وطنية، وتشجيعها استمرار القبلية والطائفية لتلعب دورا رئيسيا في الانتخابات النيابيةِ ليتشكل غالبية المجلس من شخصيات ضعيفة غير مدربة تدريبا حقيقيا للقيام بعمل نيابي ناجحِ انتخب معظمهم على اساس قبلي او طائفي او مستقلون جلهم انتهازيونِ يحاول معظمهم استغلال المزايا التي يوفرها المجلس للاعضاء لتحقيق مكاسب شخصية في مقدمتها الثروة والجاه والنفوذ على حساب المصالح الوطنية، فمعظم هؤلاء الاعضاء ليس لديهم مشروع وطني يسعون الى تحقيقهِ وهكذا سيتحول المجلس الى اداة لتدمير الديموقراطية. 

كما ستهيمن هذه السلطة على الصحافة والاعلام، وتمنع ان يكون هناك اعلام حر مستنير، يقدم الحقائق للمواطنين وينشر بينهم الوعي وتحمل المسؤولية ويحارب الفساد بكل اشكاله، وستحتكر الصحافة ووسائل الاعلام الاخرى، وتمنع المواطنين من ممارسة حقهم في اصدار الصحف او وسائل الاعلام الاخرى، ولن تسمح بذلك الا لفئة محدودة يسهل التفاهم معهاِ وستخصص وساذل الاعلام مساحات شاسعة لنشر اقوال رجال الحكومة وخطاباتهم، وتأتي بالمعلقين الذين يمجدون تلك الآراءِ بالرغم من انها تتميز بركاكة الاسلوب والمعنى وضعف الاداء وكثرة الاخطاء اللغوية.